فصل: تفسير الآيات (21- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما قوله: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فالمراد أنه يسمع أقوالكم في القذف وأقوالكم في إثبات البراءة، عليم بما في قلوبكم من محبة إشاعة الفاحشة أو من كراهيتها، وإذا كان كذلك وجب الاحتراز عن معصيته.
{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
اعلم أنه تعالى كما أدب أهل الإفك ومن سمع كلامهم كما قدمنا ذكره، فكذلك أدب أبا بكر لما حلف أن لا ينفق على مسطح أبدًا، قال المفسرون: نزلت الآية في أبي بكر حيث حلف أن لا ينفق على مسطح وهو ابن خالة أبي بكر، وقد كان يتيمًا في حجره وكان ينفق عليه وعلى قرابته، فلما نزلت الآية قال لهم أبو بكر قوموا فلستم مني ولست منكم ولا يدخلن عليَّ أحد منكم، فقال مسطح أنشدك الله والإسلام وأنشدك القرابة والرحم أن لا تحوجنا إلى أحد، فما كان لنا في أول الأمر من ذنب، فقال لمسطح إن لم تتكلم فقد ضحكت! فقال قد كان ذلك تعجبًا من قول حسان فلم يقبل عذره، وقال انطلقوا أيها القوم فإن الله لم يجعل لكم عذرًا ولا فرجًا، فخرجوا لا يدرون أين يذهبون وأين يتوجهون من الأرض، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بأن الله تعالى قد أنزل علي كتابًا ينهاك فيه أن تخرجهم فكبر أبو بكر وسره، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية عليه فلما وصل إلى قوله: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} قال بلى يا رب إني أحب أن يغفر لي، وقد تجاوزت عما كان، فذهب أبو بكر إلى بيته وأرسل إلى مسطح وأصحابه، وقال قبلت ما أنزل الله على الرأس والعين، وإنما فعلت بكم ما فعلت إذ سخط الله عليكم، أما إذا عفا عنكم فمرحبًا بكم، وجعل له مثلي ما كان له قبل ذلك اليوم، وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى:
ذكروا في قوله: {وَلاَ يَأْتَلِ} وجهين: الأول: وهو المشهور أنه من ائتلى إذا حلف، افتعل من الألية، والمعنى لا يحلف، قال أبو مسلم هذا ضعيف لوجهين: أحدهما: أن ظاهر الآية على هذا التأويل يقتضي المنع من الحلف على الإعطاء وهم أرادوا المنع من الحلف على ترك الإعطاء، فهذا المتأول قد أقام النفي مكان الإيجاب وجعل المنهي عنه مأمورًا به؛ وثانيهما: أنه قلما يوجد في الكلام افتعلت مكان أفعلت، وإنما يوجد مكان فعلت، وهنا آليت من الألية افتعلت.
فلا يقال أفعلت كما لا يقال من ألزمت التزمت ومن أعطيت اعتطيت، ثم قال في يأتل إن أصله يأتلي ذهبت الياء للجزم لأنه نهى وهو من قولك ما آلوت فلانًا نصحًا، ولم آل في أمري جهدًا، أي ما قصرت ولا يأل ولا يأتل واحدًا، فالمراد لا تقصروا في أن تحسنوا إليهم ويوجد كثيرًا افتعلت مكان فعلت تقول كسبت واكتسبت وصنعت واصطنعت ورضيت وارتضيت، فهذا التأويل هو الصحيح دون الأول، ويروى هذا التأويل أيضًا عن أبي عبيدة.
أجاب الزجاج عن السؤال الأول بأن لا تحذف في اليمين كثيرًا قال الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم أَن تَبَرُّواْ} [البقرة: 224] يعني أن لا تبروا، وقال امرؤ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ** ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي

أي لا أبرح، وأجابوا عن السؤال الثاني، أن جميع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم فسروا اللفظة باليمين وقول كل واحد منهم حجة في اللغة فكيف الكل، ويعضده قراءة الحسن ولا يتأل.
المسألة الثانية:
أجمع المفسرون على أن المراد من قوله: {أُوْلُواْ الفضل} أبو بكر، وهذه الآية تدل على أنه رضي الله عنه كان أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الفضل المذكور في هذه الآية إما في الدنيا وإما في الدين، والأول باطل لأنه تعالى ذكره في معرض المدح له، والمدح من الله تعالى بالدنيا غير جائز، ولأنه لو كان كذلك لكان قوله: {والسعة} تكريرًا فتعين أن يكون المراد منه الفضل في الدين، فلو كان غيره مساويًا له في الدرجات في الدين لم يكن هو صاحب الفضل لأن المساوي لا يكون فاضلًا، فلما أثبت الله تعالى له الفضل مطلقًا غير مقيد بشخص دون شخص وجب أن يكون أفضل الخلق ترك العمل به في حق الرسول صلى الله عليه وسلم فيبقى معمولًا به في حق الغير، فإن قيل نمنع إجماع المفسرين على اختصاص هذه الآية بأبي بكر، قلنا كل من طالع كتب التفسير والأحاديث علم أن اختصاص هذه الآية بأبي بكر بالغ إلى حد التواتر، فلو جاز منعه لجاز منع كل متواتر، وأيضًا فهذه الآية دالة على أن المراد منها أفضل الناس، وأجمعت الأمة على أن الأفضل إما أبو بكر أو علي، فإذا بينا أنه ليس المراد عليًا تعينت الآية لأبي بكر، وإنما قلنا إنه ليس المراد منه عليًا لوجهين: الأول: أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يتعلق بابنة أبي بكر فيكون حديث علي في البين سمجًا الثاني: أنه تعالى وصفه بأنه من أولي السعة، وإن عليًا لم يكن من أولي السعة في الدنيا في ذلك الوقت، فثبت أن المراد منه أبو بكر قطعًا، واعلم أن الله تعالى وصف أبا بكر في هذه الآية بصفات عجيبة دالة على علو شأنه في الدين أحدها: أنه سبحانه كنى عنه بلفظ الجمع والواحد إذا كنى عنه بلفظ الجمع دل على علو شأنه كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9]، {إِنَّا أعطيناك الكوثر} [الكوثر: 1] فانظر إلى الشخص الذي كناه الله سبحانه مع جلاله بصيغة الجمع كيف يكون علو شأنه!
وثانيها: وصفه بأنه صاحب الفضل على الإطلاق من غير تقييد لذلك بشخص دون شخص، والفضل يدخل فيه الإفضال، وذلك يدل على أنه رضي الله عنه كما كان فاضلًا على الإطلاق كان مفضلًا على الإطلاق وثالثها: أن الإفضال إفادة ما ينبغي لا لعوض، فمن يهب السكين لمن يقتل نفسه لا يسمى مفضلًا لأنه أعطى مالًا ينبغي، ومن أعطى ليستفيد منه عوضًا إما ماليًا أو مدحًا أو ثناء فهو مستفيض والله تعالى قد وصفه بذلك فقال: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى الذي يُؤْتِى مَالَهُ يتزكى وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الأعلى} [الليل: 17 20] وقال في حق علي: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 9، 10] فعلي أعطى للخوف من العقاب، وأبو بكر ما أعطى إلا لوجه ربه الأعلى، فدرجة أبي بكر أعلى فكانت عطيته في الإفضال أتم وأكمل ورابعها: أنه قال: {أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ} فكلمة من للتمييز، فكأنه سبحانه ميزه عن كل المؤمنين بصفة كونه أولي الفضل، والصفة التي بها يقع الامتياز يستحيل حصولها في الغير، وإلا لما كانت مميزة له بعينه، فدل ذلك على أن هذه الصفة خاصة فيه لا في غيره ألبتة وخامسها: أمكن حمل الفضل على طاعة الله تعالى وخدمته وقوله: {والسعة} على الإحسان إلى المسلمين، فكأنه كان مستجمعًا للتعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله وهما من أعلى مراتب الصديقين، وكل من كان كذلك كان الله معه لقوله: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ} ولأجل اتصافه بهاتين الصفتين قال له: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} [التوبة: 40] وسادسها: إنما يكون الإنسان موصوفًا بالسعة لو كان جوادًا بذولًا، ولقد قال عليه الصلاة والسلام: «خير الناس من ينفع الناس» فدل على أنه خير الناس من هذه الجهة، ولقد كان رضي الله عنه جوادًا بذولًا في كل شيء، ومن جوده أنه لما أسلم بكرة اليوم جاء بعثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلموا على يده، وكان جوده في التعليم والإرشاد إلى الدين والبذل بالدنيا كما هو مشهور، فيحق له أن يوصف بأنه من أهل السعة، وأيضًا فهب أن الناس اختلفوا في أنه هل كان إسلامه قبل إسلام علي أو بعده، ولكن اتفقوا على أن عليًا حين أسلم لم يشتغل بدعوة الناس إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم وأن أبا بكر اشتغل بالدعوة فكان أبو بكر أول الناس اشتغالًا بالدعوة إلى دين محمد، ولا شك أن أجل المراتب في الدين هذه المرتبة فوجب أن يكون أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر من هذه الجهة ولأنه عليه السلام قال: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» فوجب أن يكون لأبي بكر مثل أجر كل من يدعو إلى الله، فيدل على الأفضلية من هذه الجهة أيضًا وسابعها: أن الظلم من ذوي القربى أشد، قال الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ** على المرء من وقع الحسام المهند

وأيضًا فالإنسان إذا أحسن إلى غيره فإذا قابله ذلك الغير بالإساءة كان ذلك أشد عليه مما إذا صدرت الإساءة من الأجنبي، والجهتان كانتا مجتمعتين في حق مسطح ثم إنه آذى أبا بكر بهذا النوع من الإيذاء الذي هو أعظم أنواع الإيذاء، فانظر أين مبلغ ذلك الضرر في قلب أبي بكر، ثم إنه سبحانه أمره بأن لا يقطع عنه بره وأن يرجع معه إلى ما كان عليه من الإحسان، وذلك من أعظم أنواع المجاهدات، ولا شك أن هذا أصعب من مقاتلة الكفار لأن هذا مجاهدة مع النفس وذلك مجاهدة مع الكافر ومجاهدة النفس أشق، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» وثامنها: أن الله تعالى لما أمر أبا بكر بذلك لقبه بأولي الفضل وأولي السعة كأنه سبحانه يقول أنت أفضل من أن تقابل إساءته بشيء وأنت أوسع قلبًا من أن تقيم للدنيا وزنًا، فلا يليق بفضلك وسعة قلبك أن تقطع برك عنه بسبب ما صدر منه من الإساءة، ومعلوم أن مثل هذا الخطاب يدل على نهاية الفضل والعلو في الدين وتاسعها: أن الألف واللام يفيدان العموم فالألف واللام في الفضل والسعة يدلان على أن كل الفضل وكل السعة لأبي بكر كما يقال فلان هو العالم يعني قد بلغ في الفضل إلى أن صار كأنه كل العالم وما عداه كالعدم، وهذا وأيضًا منقبة عظيمة وعاشرها: قوله: {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ} وفيه وجوه: منها: أن العفو قرينة التقوى وكل من كان أقوى في العفو كان أقوى في التقوى، ومن كان كذلك كان أفضل لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} [الحجرات: 13] ومنها: أن العفو والتقوى متلازمان فلهذا السبب اجتمعا فيه، أما التقوى فلقوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} [الليل: 17] وأما العفو فلقوله تعالى: {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ} وحادي عاشرها: أنه سبحانه قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {فاعف عَنْهُمْ واصفح} [المائدة: 13] وقال في حق أبي بكر {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ} فمن هذا الوجه يدل على أن أبا بكر كان ثاني اثنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأخلاق حتى في العفو والصفح وثاني عشرها: قوله: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} فإنه سبحانه ذكره بكناية الجمع على سبيل التعظيم، وأيضًا فإنه سبحانه علق غفرانه له على إقدامه على العفو والصفح فلما حصل الشرط منه وجب ترتيب الجزاء عليه، ثم قوله: {يَغْفِرَ الله لَكُمْ} بصيغة المستقبل وأنه غير مقيد بشيء دون شيء فدلت الآية على أنه سبحانه قد غفر له في مستقبل عمره على الإطلاق فكان من هذا الوجه ثاني اثنين للرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ودليلًا على صحة إمامته رضي الله عنه فإن إمامته لو كانت على خلاف الحق لما كان مغفورًا له على الإطلاق ودليلًا على صحة ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في خبر بشارة العشرة بأن أبا بكر في الجنة وثالث عشرها: أنه سبحانه وتعالى لما قال: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} وصف نفسه بكونه غفورًا رحيمًا، والغفور مبالغة في الغفران فعظم أبا بكر حيث خاطبه بلفظ الجمع الدل على التعظيم، وعظم نفسه سبحانه حيث وصفه بمبالغة الغفران، والعظيم إذا عظم نفسه ثم عظم مخاطبه فالعظمة الصادرة منه لأجله لابد وأن تكون في غاية التعظيم، ولهذا قلنا بأنه سبحانه لما قال: {إِنَّا أعطيناك الكوثر} [الكوثر: 1] وجب أن تكون العطية عظيمة، فدلت الآية على أن أبا بكر ثاني اثنين للرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المنقبة أيضًا ورابع عشرها: أنه سبحانه لما وصفه بأنه أولوا الفضل والسعة على سبيل المدح وجب أن يقال إنه كان خاليًا عن المعصية، لأن الممدوح إلى هذا الحد لا يجوز أن يكون من أهل النار، ولو كان عاصيًا لكان كذلك لقوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالدا فِيهَا} [النساء: 14] وإذا ثبت أنه كان خاليًا عن المعاصي فقوله: {يَغْفِرَ الله لَكُمْ} لا يجوز أن يكون المراد غفران معصية لأن المعصية التي لا تكون لا يمكن غفرانها وإذا ثبت أنه لا يمكن حمل الآية على ذلك وجب حملها على وجه آخر، فكأنه سبحانه قال والله أعلم: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} لأجل تعظيمكم هؤلاء القذفة العصاة، فيرجع حاصل الآية إلى أنه سبحانه قال يا أبا بكر إن قبلت هؤلاء العصاة فأنا أيضًا أقبلهم وإن رددتهم، فأنا أيضًا أردهم فكأنه سبحانه أعطاه مرتبة الشفاعة في الدنيا، فهذا ما حضرنا في هذه الآية والله أعلم فإن قيل: هذه الآية تقدح في فضيلة أبي بكر من وجه آخر وذلك لأنه نهاه عن هذا الحلف فدل على صدور المعصية منه قلنا الجواب: عنه من وجوه: أحدها: أن النهي لا يدل على وقوعه، قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين}.